فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

75- سورة القيامة:
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القارعة.
عدد آياتها: أربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وتسع وتسعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة واثنان وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
جاء في ختام سورة {المدثر} قوله تعالى: {كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة} جاء كاشفا عن العلة التي نجم عنها شرك المشركين، وكفرهم بآيات اللّه، وتكذيبهم لرسول اللّه.. وتلك العلة هي أنهم لا يؤمنون بالبعث، ولا يتصورون إمكان الحياة بعد الموت، ومن ثم فإنهم لا يعملون حسابا لما وراء حياتهم الدنيا، ولهذا أطلقوا عنان أهوائهم، وأسلموا زمامهم للشيطان، يعيشون كما تعيش السائمة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {والّذِين كفرُوا يتمتّعُون ويأْكُلُون كما تأْكُلُ الْأنْعامُ والنّارُ مثْوى لهُمْ} (12: محمد).
ولو كان هؤلاء المشركون يؤمنون بالآخرة، ويتصورون إمكان الحياة، بعد الموت، لكان لهم نظرة إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، ولعملوا حسابا ليوم يلقون فيه ربهم، ويجزون فيه على أعمالهم.
وقد جاءت سورة القيامة، تعرض وقوع هذا اليوم، يوم القيامة، في صورة واقع مشهود، له ذاتية معترف بها، فيقسم به اللّه سبحانه وتعالى، كما يقسم بالشمس، والقمر، والليل، والضحى، والعصر.. وغير ذلك من آياته المشهودة للعالمين.
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ الْقِيامةِ}.
قلنا في تفسير هذه الأقسام المنفيّة، إن المراد بها هو التلويح بالقسم، دون إمضائه، إذا كان الأمر المقسم عليه أوضح من أن يدل عليه، وأن يؤكد في الدلالة عليه بقسم.. إنه ينزل منزلة البديهيات، وتوكيد البديهيات لا يزيدها عند الذين لا يؤمنون بها إلا إنكارا، واستبعادا..
والتلويح بالقسم، إشارة إلى أنه لو كان الأمر يحتاج إلى قسم لمضى القسم إلى غايته، ولما سلط عليه النفي الذي حال بينه وبين أن يقع على المقسم عليه..
ففائدة هذا القسم المنفي أنه يقرر حقيقة، لا يرى لها وجه، لو جاء الأمر ابتداء من غير هذا القسم المنفىّ.. فالقسم المنفي هنا يكشف عن حال المواجهين بالقسم، وأنهم يكذبون بالبدهيات، ويعاندون في المسلّمات، وأنه لو كان في التوكيد بالقسم مقنع لهم، لوقع القسم، ولكن يستوى عندهم الأمران، التوكيد وغير التوكيد.. إنهم على أي الحالين لا يؤمنون بما يلقى إليهم من أخبار على لسان النبي، بما يوحى إليه من ربه.
قوله تعالى: {ولا أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامةِ} معطوف على يوم القيامة..
والنفس اللوامة، هي النفس التي ترجع على صاحبها باللائمة لما يقع منه من إثم، وما يقترف من ذنب.. وهذا التلويم من شأنه أن يغيّر من وضع الإنسان القائم على الإثم، والمتجه إلى المنكر.. إنه قوة معارضة لهذا التيار الذي يدفع به إلى المنكر، وقد يتحول هذا التيار إلى الجهة المضادة لطريق الغواية المتجه إليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {والّذِين يُؤْتُون ما آتوْا وقُلُوبهمْ وجِلةٌ أنّهُمْ إِلى ربهمْ راجِعُون أُولئِك يُسارِعُون فِي الْخيْراتِ وهُمْ لها سابِقُون} (60- 61: المؤمنون) فمع وجل القلوب، يقع في النفس ما يقع من لوم على ما فرط منها.
وقرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا التلويم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة.. فالنفس اللوامة إنما يحملها على التلوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء اللّه، والوقوف بين يديه.. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت في كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب!
قوله تعالى: {أيحسب الإنسان ألّنْ نجْمع عظامه}؟
أي أيظن الإنسان أننا لن نجمع عظامه؟ أيستكثر على قدرتنا أن نقيم من هذا التراب بشرا سويا؟ {أوليْس الّذِي خلق السّماواتِ والْأرْض بِقادِرٍ على أنْ يخْلُق مِثْلهُمْ} (81: يس).. {وضرب لنا مثلا ونسِي خلْقهُ قال منْ يُحْيِ الْعِظام وهِي رمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الّذِي أنْشأها أوّل مرّةٍ وهُو بِكُلِّ خلْقٍ علِيمٌ} (78- 79: يس) قوله تعالى: {بلى قادِرِين على أنْ نُسوِّي بنانهُ} أي بلى إننا نجمع عظامه، مع قدرتنا على تسوية بنانه.. فليس جمع هذه العظام التي أكلها التراب، وأبلاها البلى، هو الذي تقف عنده قدرتنا، بل إن هذه القدرة ستعيد هذه العظام إلى وضعها الأول، وستسوى أدقّ ما في الإنسان من عظام، وهى عظام البنان، أي الأصابع..
وقوله تعالى: {قادرين} حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: بلى نجمعها، ونحن قادرون على تسوية بنانه، التي هي أدق هذه العظام، وأصغرها..
قوله تعالى: {بلْ يريد الإنسان ليفجر أمامهُ} هو إضراب على هذا الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي ينكر البعث، ويأبى أن يصدق به.. فإن نصب الأدلة له، وإقامة الحجج بين يديه- كل ذلك لا يكشف عمى بصيرته، ولا يوقع في نفسه إيمانا بالبعث، وإعدادا اليوم الآخر..
إنه لا يريد أن يلتفت إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا، ولا يريد أن يقيّد نفسه بعالم آخر غير هذا العالم، الذي يعيش فيه مطلقا من كل قيد، مرسلا حبله على غاربه..
وقوله تعالى: {ليفجر أمامهُ} أي ليقيم حفرة بينه وبين الحياة الآخرة التي يقال له عنها.. إنه يضع أمام نفسه العقبات التي تصرفه عن الحياة الآخرة، بما يقيم على طريق هذه الحياة من معوقات، هي تعلّات وتصورات مريضة، توقع عنده الشك في البعث، وما وراء البعث، حتى يحلّ نفسه من ملاقاة هذا اليوم، وما يحدّث به إليه، عن هذا اليوم وأهواله.. إن ذلك اليوم يقطعه عن الحياة البهيمية التي رضى بها واطمأن إليها، فهو إذا سمع حديثا عن يوم القيامة، حاول جاهدا أن يفسد هذا الحديث، وأن يخرج به من مجال العقل والجد، إلى حيث المهاترة والهزل..
وأصل الفجر، والفجور، من فوران الشيء، وتفجره في قوة وعنف، ومنه قوله تعالى: {وفجّرْنا الْأرْض عُيُونا} ومنه الفجور، وهو التهتك والتبذل، وخلع قناع الحياء..
وفى تعديه الفعل {يريد} باللام التي تفيد التعليل- مع أن الفعل يتعدى إلى مفعوله بغير حرف- في هذا إشارة إلى أن هذه الإرادة إرادة عاملة، وأنها ليست مجرد أمنية، أو رغبة، أو خاطرة، تطرق الإنسان، ثم لا تلبث أن تذهب غير مخلفة أثرا..
فالإرادة هنا إرادة مشدودة إلى عزم، وتصميم، على التنفيذ.. وفى طريق التنفيذ تقوم عقبات، فيعمل صاحب هذه الإرادة على تذليلها، ويحتال لإمضائها.. ولهذا ضمّن الفعل {يريد} معنى الفعل {يحتال}.
وهذا يعنى أن الإنسان يغالب قوة متحدية لإرادته وهى الفطرة المودعة فيه، فلا يملك لها دفعا إلا بالمراوغة والاحتيال وهذا المعنى هو الذي قصد إليه مجنون ليلى بقوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ** تمثّل لى ليلى بكل سبيل

وقوله تعالى: {يسْئلُ أيّان يوْمُ الْقِيامةِ} هو أثر من آثار إرادة هذا الإنسان، الذي يقيم العلل، والمعاذير، بينه وبين اليوم الآخر.. فهو يسأل سؤال المنكر، المستهزئ: أيان يوم القيامة؟ أي متى يكون يوم القيامة هذا؟ وهو سؤال اتهام لهذا اليوم، وتكذيب لمن يتحدث به، أو عنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لا أُقْسِمُ بِيوْمِ الْقِيامةِ (1)}
افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن.
وكونُ القسم بيوم القيامة براعةُ استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة.
وفيه أيضا كون المقسم به هو المقسم على أحواله تنبيها على زيادة مكانته عند المُقسِم كقول أبي تمام:
وثناياك إِنّها اِغرِيضُ ** ولآلٍ تُؤْمٌ وبرق ومِيضُ

كما تقدم عند قوله تعالى: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا} في سورة الزخرف (1 3).
وصيغة {لا أقسم} صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل {أقسم} لقصد المبالغة في تحقيق حُرْمة المقسم به بحيث يُوهِم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعزّ منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القسم وتقدم عند قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75).
وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد.
والقسم بيوم القيامة باعتباره ظرفا لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة.
وتقدم الكلام على {يوم القيامة} غير مرة منها قوله تعالى: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} في سورة البقرة (85).
وجواب القسم يؤخذ من قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} لأنه دليل الجواب إذ التقدير: لنجمعن عظام الإنسان أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه.
وفي (الكشاف) قالوا إنه (أي لا أقسم) في الإِمام بغير ألف. وتبرأ منه بلفظ (قالوا) لأنه مخالف للموجود في المصاحف.
وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ {لأقسم} الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في (غيث النفع) ولم يذكرها الشاطبي.
واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد، فتكون اللام لام قسم.
والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله: {ولا أقسم} تأكيدا للجملة المعطوف عليها، وتعريف {النفس} تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة.
والمراد نفوس المؤمنين.
ووصفُ {اللوامة} مبالغة لأنها تُكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة.
وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومُها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي.
قال الحسن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه على ما فات ويندم، يلوم نفسه على الشر لِم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه. فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقسم بها وما كان يوم القيامة إلاّ لكرامتها.
والمراد اللوامة في الدنيا لوما تنشأ عنه التوبة والتقوى وليس المراد لوم الآخرة إذ {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24].
ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم.
وعن بعض المفسرين أن {لا أقسم} مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تلوم على فعل الخير.
وقوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} إلخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإِنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلى غالب الناس يومئذٍ إذ كان المؤمنون قليلا.
فالمعنى: أيحسب الإنسان الكافر.
وجملة {أن لن نجمع عظامه} مركبة من حرف {أن} المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت (إنّ) المكسورة.
واسم {أن} ضمير شأن محذوف.
والجملة الواقعة بعد {أنْ} خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل {أن} مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي فعل الظن.
والأخفش يجعل {أن} مع جزئيها في مقام المفعول الأول (أي لأنه مصدر) ويقدِّر مفعولا ثانيا.
وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول (أن) المفتوحة الهمزة بعدها فيستغني الفعل بـ (أن) واسمها وخبرها عن مفعوليه.
وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها.
قال القرطبي: نزلت في عدي بن ربيعة (الصواب ابن أبي ربيعة) قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد حدِّثْني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقْك أو يجمع الله العظام.
فنزلت هذه الآية، ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصص الإنسان بهذا السائل.
والعظام: كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقوالهم {من يُحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] {أإذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون} [الإسراء: 49] {أإذا كنا عظاما نخرة} [النازعات: 11] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإِعادة بعد البِلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى.
فإثبات إعادة العظام اقتضى أن إعادة بقية الجسم مساوٍ لإِعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإِيجاز.
ثم إن كانت إعادة الخلق بجمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذراتتٍ الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل {نجمع} محمول على حقيقته.
وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على صور الأجسام الفانية سواء كان خلقا مستأنفا أو مبتدأ من أعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا.
ففعل {نجمع} مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلِي.
ومناسبة استعارته مشاكلةُ أقوال المشركين التي أريد إبطالُها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلاّ إجمالها ومِن ثم اختلف علماء الإِسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث.
واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين.
و{بلى} حرف إبطال للنفي الذي دل عليه {لن نجمع عظامه} فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع.
و{قادرين} حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد {بلى} الذي يدل عليه قوله: {أن لن نجمع} أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نُسوي بنانه.
ويجوز أن يكون {بلى} إبطالا للنفيين: النفي الذي أفاده الاستفهام الإِنكاري من قوله: {أيحسب الإنسان} والنفي الذي في مفعول {يحسب}، وهو إبطال بزجر، أي بل لِيحسبنا قادرين، لأن مفاد {أن لنْ نجمع عظامه} أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون {قادرين} مفعولا ثانيا لِيحسبنا المقدر، وعدل في متعلق {قادرين} عن أن يقال: قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإِعادة.
ولمراعاة هذه المعاني عُدل عن رفع: {قادرون}، بتقدير: نحن قادرون، فلم يقرأ بالرفع.
والتسوية: تقويم الشيء وإتقان الخلْق قال تعالى: {ونفسسٍ وما سواها} [الشمس: 7] وقال في هذه السورة: {فخلق فسوى} [القيامة: 38].
وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوّمة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سُوِّي إلاّ وقد أُعيد خلقه قال تعالى: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2].
والبنان: أصابع اليدين والرجلين أو أطرافُ تلك الأصابع.
وهو اسم جمع بنانةٍ.
وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسْوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول: قلعتْ الريح أوتاد الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلّها فإنه قد يكنّى بأطراف الشيء عن جميعه.
ومنه قولهم: لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبْل الذي يشد به، كناية عن جميع الشيء.
وكذلك قولهم: هو لك برُمته، أي بحبله الذي يشد به.
{بلْ يريد الإنسان ليفجر أمامهُ (5)}
{بل} إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم، فموقع الجملة بعد {بل} بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين، أي لمّا دُعُوا إلى الإقلاع عن الإِشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر.
والفُجورُ: فعل السوء الشديد ويطلق على الكذِب، ومنه وُصفت اليمين الكاذبة بالفاجرة، فيكون فجر بمعنى كذب وزْنا ومعنى، فيكون قاصرا ومتعديا مثل فعل كذب مُخفف الذال.
روي عن ابن عباس أنه قال: يعني الكافر يكذِّب بما أمامه.
وعن ابن قتيبة: أن أعرابيا سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبر راحلته فاتّهمه عمر فقال الأعرابي:
ما مسّها من نقببٍ ولا دبر

أقْسم بالله أبو حفص عمرْ

فاغفِرْ له اللهم إنْ كان فجرْ

قال: يعني إن كان نسبني إلى الكذب.
وقوله: {يريد الإنسان} يجوز أن يكون إخبارا عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور.
ويجوز أن يكون استفهاما إنكاريا موافقا لسياق ما قبله من قوله: {أيحسب الإنسان أنْ لن نجمع عظامه} [القيامة: 3].
وأعيد لفظ {الإنسان} إظهارا في مقام الإِضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب من ضلاله.
وكرر لفظ {الإنسان} في هذه السورة خمس مرات لذلك، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين الرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها.
واللام في قوله: {ليفجر} هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإِرادة نحو {وأمِرْتُ لأعْدِل بينكم} [الشورى: 15] {يريد الله ليُبيِّن لكم} [النساء: 26] وقول كُثيِّر:
أريد لأنْسى حُبها فكأنّما ** تمثّلُ لي ليلى بكُل مكان

وينتصب الفعل بعدها بـ (أنْ) مضمرة، لأنه أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل: هي لام التعليل وقيل: زائدة.
وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره، أي إرادتهم للفجور.
واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها، ولهذا الاستعمال الخاص بها.
قال النحاس سماها بعضُ القراء (لام أنْ).
وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى: {يريد الله ليُبيِّن لكم} في سورة النساء (26).
وأمام: أصله اسم للمكان الذي هو قُبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلْف، ويطلق مجازا على الزمان المستقبل، قال ابن عباس: يكذب بيوم الحساب، وقال عبد الرحمان ابن زيد: يكذب بما أمامه سفط.
وضمير {أمامه} يجوز أن يعود إلى الإنسان، أي في مستقبله، أي من عمره فيمضي قُدُما راكبا رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور.
وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه.
ويجوز أن يكون {أمامه} أُطلق على اليوم المستقبل مجازا وإلى هذا نحا ابن عباس في رواية عنه وعبدُ الرحمان بن زيد، ويكون {يفجر} بمعنى يكذب، أي يكذِب باليوم المستقبل.
{يسْألُ أيّان يوْمُ الْقِيامةِ (6)}
يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير {ليفجر أمامه} [القيامة: 5] بالتكذيب بيوم البعث.
ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالة وقوعه.
و{أيان} اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها: أن آن كذا، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضموم النون وإنما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفا فصارت {أيان} بمعنى (متى).
وتقدم عند قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} في الأعراف (187).
فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعدِّ السِنين ونحوها، أو بما يتعين به عند السائلين من حدث يحل معه هذا اليوم.
فهو طلب تعيين أمد لحلول يوم يقُوم فيه الناس. اهـ.